تختزن الشعوب موروثها الثقافي جيلاً بعد جيل، وتستمد من خلال هذا المخزون القدرة على البقاء والحافز على الاستمرار وأسباب التمسك بالأرض والحق والهوية، وتعبّر شعوب العالم عن موروثها الثقافي وتفصح عن طريقة تفكيرها ولغة عواطفها من خلال أساليب عديدة، أهمها التراث الشفوي، المتمثل بالأغاني والأمثال الشعبية والقصص والحكايات، والذي يمتاز عن باقي أقسام التراث الأخرى بسهولة انتقاله ونشره بين الناس.
تعتبر الأغاني الشعبية والتراثية أكثر مواد التراث الشفوي انتشاراً، التي توثق بإيقاعها وكلماتها جزءاً من تاريخ وعادات الشعوب، وتكوّن صورةً صوتية مُلحنة لأحاسيسه وبصمة محفورة في الذاكرة لانفعالاته. وفي تاريخنا الحديث تجارب للعديد من الفنانين الذين عملوا على بث الروح في تراثنا وإعادة تقديمه بنموذجه الأصيل والقدرة على التوليف بين أصالة الكلمة وحداثة الآلة والنغم، لكي يصبح التراث ملاذاً جميلاً تحتمي به الذاكرة من مآزق حاضرٍ متبدل.
الأغنية التراثية كفعل توثيقي
في سياق الحديث عن أهمية الأغنية التراثية تقول الفنانة، لارا عليان التي عرف عنها الالتزام بالفن الشرقي الأصيل والتراث الوطني الفلسطيني، أن التراث هو بمثابة مرآة عكست الحياة المادية والروحية لكل بقعة ولكل شعب من شعوب الأرض، وأن الحدود بين بلاد الشام لا تلغي الاشتراك والتشابه في التراث الغنائي الذي له فعل توثيقي يحافظ على تاريخنا وذاكرتنا. فعند اختراق الحدود نجد التماثل في الفنون الشعبية؛ حوران منطقة واحدة في كل من الأردن وسوريا، وتمتلك ذات الأغاني التراثية، وإذا اتجهنا نحو الشرق والجنوب باتجاه العراق والسعودية، نجد الاشتراك بالقصائد التي تصاحب العزف باستخدام الربابة، ويتشابه اللحن وبناء الأغنية في منطقة الجليل الغربي مع جبال لبنان حيث أمرعت هنالك الدلعونا والعتابا وزريف الطول.
وتضيف لارا، أن الأغنية التراثية ذات الكلمة البسيطة واللحن البسيط قامت بعكس صورة الحياة التي عيشت سابقاً، سواء في مناسبات الفرح أم في المناسبات الحزينة أم في بطولات الرجال والنساء ورثاء الشهيد ومقاومة الاحتلال. فيما تكمن أهمية الأغنية التراثية من وجهة نظر الفنان لؤي أحمرو، الذي عرف بمشاريع إعادة إحياء التراث الموسيقي، بأنها تحاكي جميع الأحداث التي حدثت في تاريخ بلادنا حيث تحدثت عن العلاقات الاجتماعية وعن القيمة التاريخية للمنطقة وحتى عن التبادلات التجارية والاقتصادية مثل اغنية "يا رايحين على حلب"، وفي الوقت الحالي يوجد العديد من الأغاني التي تحاكي واقعنا والتي من الممكن أن تصبح تراثاً لنا بعد مضي فترة من الزمن.
توزيع جديد لذات الجوهر
يقول الباحث والمؤرخ المتخصص في التراث والفولكلور، نمر سرحان: في كتابه "اغانينا الشعبية في الضفة الغربية"، أن "الموسيقى الشعبية تعتمد بصفة أساسية على الغناء والإيقاع كوسيلة سهلة لترديد الألحان، والجماهير الشعبية تربط بين اللحن الموسيقي وكلمات الأغاني المألوفة لديها، فعندما ينبعث لحنٌ من الشبابة، آلة موسيقية نفخية، على وزن "دلعونا مثلاً" فإن المستمع يتصور الكلمات التي يتلوها ذلك اللحن ويتنغّم بها، كما تعتمد الموسيقى الشعبية على آلات موسيقية بسيطة التركيب ومصنوعة من خامات البيئة".
وحسب دراسة بعنوان "تراث الموسيقى الشعبية الفلسطينية" للباحث الدكتور أحمد عبد ربه، فإن من سمات الاغاني الشعبية امتلاكها الطابع المقامي وأن مقام البيات هو الذي يسيطر في أغلب الأغاني، ويلعب الإيقاع دوراً أساسياً في تحديد البنية الشكلية للحن الموسيقي، وظيفة الإيقاع في الموسيقى العربية هي حفظ الوزن الموسيقي وضبط حركة الألحان. وتهيمن على الإيقاع في الموسيقى الشعبية سمات خاصة، تمنحه القدرة على القيام بدور مؤثر في توجيه العمل الفني، وخلق أجواء نفسية معينة، سرعان ما تستحوذ على المستمع لتخلق من حوله عالماً متميزاً.
تبعاً لذلك، نرى في وقتنا الحالي تبايناً في تقديم الأغنية التراثية من قبل الفنانيين بين الحفاظ على اللحن الأصلي للأغنية وبين التجدد في تقديمها وتطويعها لحناً وغناءً، وتصنف لارا نفسها ضمن مدرسة الفنانين الذين يحافظون على اللحن الأصلي والجوهر والمقام مع القيام ببعض التوزيعات الموسيقية، وتعتبر المساس بمقام الأغنية الأصلي وتغيره يعمل على تشويهها، وتختلف إيقاعات الأغنية التراثية حسب المناسبة التي كانت تغنى لها، ولكن غالباً ما يستخدم بها إيقاعات بسيطة تعتمد على ميزانٍ بسيط، وترى بإعادة التوزيع الموسيقي للأغاني التراثية أمرٌ يحاكي الجيل الجديد ويساهم في اتساع رقعة الجمهور، لكن دون المساس بالجوهر.
ويرى لؤي، الذي حقق شعبية واسعة من خلال استخدام "mashup" للأغاني التراثية، وهو عبارة عن مزجٍ للأغاني مع بعضها البعض يصحبه توزيع موسيقي بشكل معاصر، أن المسألة تعود للفنان ونوع الفن الذي يقدمه، اذا كان يحبذ الشكل الكلاسيكي سيقدمها كما هي، أما إذا أردنا تقديمها بقالب حديث فإننا سنعمل على تسريع الإيقاعات؛ الأغاني التراثية في الماضي كانت تغنى دون استخدام الإيقاعات ومن ثم استخدمت آلات الطبل وبعدها تطورت أكثر، وما زالت تتطور إلى الآن وهذا شيء جميل ولا مانع منه مع مراعاة عدم المساس باللحن الأصلي والمقام.
الأغنية التراثية في وجه التحديات
لا خطر يهدد موروثنا الثقافي قدر الانقطاع بين الأجيال، ما سيفضي حتماً إلى تراكم غبار السنين عليه، وانسحابه التدريجي من حياتنا، فإن حدث، فإن جزءاً من هويتنا قد تضرر ولحق به الأذى، وفي سبيل إحياء التراث والحفاظ عليه من خلال الأغنية التراثية فإن المحاولات التي تُبذل حتى الآن تنحصر في جهود فردية ضمن مسيرة فنية تحيط التحديات بها، وتختصر لارا هذه التحديات بانخفاض الرعاية المادية والإعلامية، حيث تقول إن هذا النوع من الفن بمضمونه ورسالته العظيمة لا تلتفت له المؤسسات وشركات الإنتاج، وبالتالي فإن المجهود هو مجهود فردي يقع على عاتق الفنان، ولكنها في ذات الوقت سعيدة وتشعر بالرضا عن العمل الذي تقدمه لأنه يمثلها وينبع من الشعور بالواجب لأنه يمثل شكلاً من أشكال المقاومة وهذا ما يدفعها للاستمرار.
على الجانب الآخر، وفيما يتعلق بضرورة ارتباط الجماهير بالتراث كما يقول الشاعر سميح القاسم: "نحن جزء من هذا الشعب العربي، نمتلئ بانغامه وأشعاره وأساطيره وحكاياته نطورها لتصل إلى الحدث: الدخول إلى الجماهير والتأثير فيها"، فإن القاعدة الشعبية التي تستقبل الأغاني التراثية ليست كبيرة بالشكل المطلوب كما يقول الفنان لؤي، الأمر الذي يمثل تحدٍ يضاف إلى تحديات أخرى من وجهة نظره، أبرزها، هو كسر الصورة النمطية التي تحصر مقدمين هذا الفن وحتى المستمعين له ضمن دائرة كبار السن، إضافة إلى حصر الفنان في قالبٍ معين للأغنية التراثية مما يؤدي الى عدم تقبل الجهات الداعمة فكرة تقديمها بقالب سريع.
يقرأ لؤي الواقع الحالي للأغنية التراثية بأن التصاعد موجود ولكن ليس بالسرعة المطلوبة، وبدأ يرى تعطشاً وشغفاً من الجمهور لسماع المزيد من الأغاني التراثية المحدثة. وتضيف لارا بأن الصمود لا يزال قائماً ولم نصل مرحلة الإنحدار، فهنالك فئة من الفنانين مستمرين في تحمل المسؤولية والجمهور المتذوق لهذا الفن ما زال حاضراً ولكنه يتسع بشكل ضئيل.
نستمر في غناء التراث أم نبتكر تراث المستقبل
عند النظر إلى الأغاني التراثية من وجهة نظر الحاضر والمستقبل، نرى بأن المسيرة نحو النهضة الفنية تتطلب ضرورة حضور الأغنية التراثية في المشهد، والتي هي بمثابة سلاحٍ أصيل نصقل به أنفسنا حتى يزدهر على ما هو خير وطيب فيها، ولا ترى لارا تعارضاً بين غناء التراث والحفاظ عليه وبين تقديم محتوى ومضمون جميل من الممكن أن يكون تراثاً في المستقبل، بمعنى أن لا شيء يلغي الآخر. واستحداث تكويننا الموسيقي من خلال استخدام آلات موسيقية جديدة لم يكن شائعاً استخدامها سابقاً، كآلة "البزق مثلاً"، يرى لؤي في ذلك ضرورة لابتكار تراث المستقبل، حيث يجب أن يكون هناك نتاج فني منفصل عن غناء التراث لكل فنان دون الالتزام بالخط التراثي والكلاسيكي فقط.
تراث الشعوب الفني والموسيقي دعامة من دعائم الثقافة والفكر، ولوحةٌ جينية تبرز في ثناياها خصائص الشعوب، في المجال النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ لأنه يصقل العادات والتقاليد ويؤثر في السلوك والوجوه والملامح، وهو أيضاً إثباتٌ للامتزاج بين الحضارات خلال التاريخ الطويل، ومن الصعب أن تقوم نهضة فنية صحيحة دون أساس من تراث الشعوب، فالفن يزداد ارتفاعاً كلما اقترب من الشعب، وباستلهام فننا الشعبي يمكن الارتكاز في الإبداع على أنفسنا ويمكن أن نتخلص من عقدة النقص أمام فن الغرب وأن نستبشر بجيلٍ مبدع في كل وقت.