في أوائل القرن العشرين، عجّت منطقة الشرق الأوسط بالصناعات الترفيهية القادمة من أوروبا، وتأثرت أشكال الفنون فيها بهذه الصناعات، فلعبت دوراً غير مباشر في بعض التحوّلات الثقافية والمجتمعية في المنطقة.
كما ارتبطت بعض هذه الوسائل بالتراث الشعبي ارتباطاً وثيقاً، وأضحت جزءاً من جغرافية المكان، وكأنها من صنع أهل هذه المناطق. في أحيانٍ أخرى، أدّت هذه الوسائل – على بساطتها- المهام السياسية والتطبيعية بين دول القارات المختلفة، ومن أهم هذه الأدوات التي صُنعت ثم باتت شبه منقرضة في أيامنا هذه ما يُسمى بـ "صندوق الفرجة".
يُعَّد صندوق الترفيه المتجول المعروف باسم "صندوق العجب" أو "صندوق الفرجة" في بلاد الشام واحداً من أبرز الأدوات البسيطة التي تنقّلت بين أجزاء المعمورة، وأحدثت تأثيرات غير مسبوقة باعتبارها التطبيق الأولي للسينما والتلفاز. وكان صيته قد ذاع في المنطقة متأخراً في بداية القرن العشرين، ولم نعُد نسمع بهذا الصندوق في يومنا هذا، إلا أن بصمته الصُورية لازالت متنَاقلة في بعض الأعمال الدرامية المصرية والسورية، وخصوصاً تلك التي تتحدث عن زمن الحارات في ثلاثينيات العقد الماضي، وكذلك نجد الفنان الفلسطيني عادل الترتير، الذي لا يزال يجول بصندوق العجب الخاص به ويروي الحكايات للأطفال عبره.
ظهر "صندوق الفرجة" أو ما يُعرف باللغة الإنجليزية بـ "peep show" في القارة الأوروبية في عصر النهضة على يد ألبيرتي، وانتشر في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وصُنعت صناديق فرجة للاستهلاك المحلي بالفعل في القرن الثامن عشر، بعد أن كانت تتوّفر في متناول أيدي المستهلكين الأثرياء فقط. ثم انتقل الصندوق فيما بعد للصين واليابان، وبلاد فارس ووصل متأخراً إلى المنطقة العربية. وكان للصندوق، الذي يرتكز على الوهم في تحريك الصور وإشعار المتفرج بأنه في قاعة سينما مُصغّرة، تأثير متباين في العالم.
لمن لا يعرفه، "صندوق الفرجة" هو صندوق خشبي بعدسات محدبة ينظر من خلالها المتفرج ليشاهد الصور التي يحرّكها حامل الصندوق أثناء ترديد أغنية أو قراءة رواية ما. ويرتبط الصندوق بفنون الفرجة التي تستهدف المتفرجين حيث هم، ويقوم الراوي/حامل الصندوق في الغالب برواية الأحداث التاريخية والمعارك وقصص الحب الشعبية، بحيث يرى الجمهور صوراً محددة (مُصوّرة أو مرسومة باليد) ويستمع إلى القصص دون الكثير من الحوار.
احتاجت أداة الصندوق إلى جهد كبير من العمل والتطوير في أوروبا حتى تصل إلى نتيجة تشبه ما عرفه آباؤنا وأجدادنا مؤخراً، فقد كانت من فنون الفرجة المرتبطة بفنون السحر والسيرك، وكانت المنافسة بين هذه الأنواع شديدة، حتى أن العمل على صناعة الصندوق كان يشبه العمل على مشروع بقواعد فيزيائية لصناعة التأثيرات البصرية. وكانت بعض الصناديق تتسع لشمعة مع صناعة ثقوب في الصور، لإبراز إضاءات المنازل الموجودة داخل الصور مثلاً.
لم يقتصِر تطوير "صندوق الفرجة" على الغرب، فبحلول عام 1718، كانت اليابان قد بدأت في تطوير صناديق الفرجة الخاصة بها، ولكن الصين كانت قد سبقتها إلى ذلك بعد أن استوردت هذه الصناديق من هولندا، وبات يُطلق عليها اسم "ماكينات هولندا"، ومع ذلك طوّر الآسيويون نسختهم الخاصة من الصندوق.
يُوّضح العلماء بأن الصندوق كان بمثابة نافذة على العالم في ذلك الوقت، وكان بالنسبة لليابانيين وسيلة تثقيفية تنقل مجموعة من المعارف حول الأماكن البعيدة مثل أوروبا، حيث لم يكُن الناس في القرن الثامن عشر قادرين على السفر بسهولة. في حالة اليابان تحديداً، من المعروف أنها كانت تتبع سياسة "العزلة" و"البلد المغلق"، فجاء الصندوق ليلعب دوراً بارزاً في التعرّف على الجانب الآخر من العالم. بيد أن المثير للاهتمام هو أن اليابانيين كانوا يعتقدون أن جميع الصور التي يتفرجون عليها من الصناديق المستوردة هي مدن هولندية دون التمييز فيما بينها.
أما إيران، فقد وصلها الصندوق متأخراً عن دول الشرق الأقصى، إذ يُقال إن الصندوق
وصل بلاد فارس بداية القرن التاسع عشر، حينما أحضره الشاه
مظفر الدين قاجار من فرنسا. وتعتقد الباحثة في تاريخ الفنون الحديثة في جامعة كاليفورنيا ستاسي جيم شيويلر بأن "صندوق الفرجة" في إيران لم يكُن مجرد أداة ترفيهية، إذ جاء أثناء فترة حكم القاجار، الذين عُرفوا بانفتاحهم على أوروبا، وكانوا يطلقون عليه اسم "مدينة الفرنجة/ أوروبا".
وتتساءل الباحثة "ما الذي سيجعل رجلاً إيرانياً يدفع مبلغاً لراوٍ متجول وينحني على ركبتيه لمشاهدة صور متحركة لمدنٍ أوروبية؟ ما هو المُلهم بالصور الأوروبية بالنسبة لهؤلاء؟" تعتقد بأن الصندوق لعب دوراً في تقارب كيانين جيوسياسيين، بل كان تعبيراً صريحاً عن رغبة القاجار بإعادة التفكير بعلاقة الدولة الفارسية مع أوروبا والتقرب إليها، فبعد أن كانت صورة أوروبا بشعة بالنسبة للإيرانيين أثناء حكم الصفويين (الحكم السابق للقاجار)، بات الإيرانيون أكثر انفتاحاً لرؤية أوروبا والذهاب إليها للدراسة، ورؤية الصور التي كانوا يرونها بالصندوق على أرض الواقع.
وفيما بعد، يُقال إن الصندوق وصل المنطقة العربية مع الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وقد تكون بلاد فارس هي الجسر الذي انتقل الصندوق من خلاله للمنطقة، نظراً للتقارب الجغرافي لا السياسي. لا توجد معلومات دقيقة تستطيع التكهّن بكيفية انتقال الصندوق للمنطقة، ولكن المعلومات الأكثر تداولاً تُفيد بأنه انتقل أثناء فترة حكم العثمانيين لسوريا وفلسطين ومصر ثم انتقل منها إلى الدول المجاورة.
وفي حالة الأردن، يمكننا القول بأن الصندوق هو فن القرى، إذ تنقّل بين أزقّة القرى أكثر ممّا تنقّل في المدينة، وجال في المحافظات الأخرى أكثر ممّا جال في العاصمة. من خلال زيارات متعددة لعمّان، يكون السؤال عن "صندوق الفرجة" أمراً غريباً لكبار السن، فمعظمهم لا يحملون في ذاكرتهم بصمةً حول الأمر كأبناء المناطق الأخرى. إلى جانب ذلك، فعروض الصندوق لم تكن متوفرة بكثرة، وإنما تزامنت مع الأعياد والعطلات برفقة القرداتي ومسارح الدمى والسيرك.
وما كاد صوت الراوي المتجول يصدح في أنحاء القرية حتى كان أبناؤها يجتمعون على وقع ترتيلاته الرتيبة "قوم اتفرج يا سلام... شوف أيامك بالتمام"، فيهمّ كلّ منهم بجلب بيضة وأحياناً رغيف خبز كسعرٍ للفرجة حين لم تكن النقود في متناول اليد، وذلك من أجل النظر لدقائق معدودة داخل الصندوق. وبعد فترة الخمسينات، أصبح الدفع يتم نقداً بالتعريفة/أردنية، من أجل مشاهدة عدد من الصور المصحوبة بتأثير العمق الوهمي للصور "المتحركة"، وهو التطبيق الأقرب للسينما والتلفاز.
وجد الباحثون الذين درسوا تأثيرات الصندوق على بلاد فارس وغيرها بأنه عندما وصلهم كان يحمل إرثاً صورياً للمدن الأوروبية، إلا أن هذا الاعتقاد لا ينطبق على المنطقة العربية، وتحديداً في بلاد الشام والعراق، على الرغم من أن المنطقة العربية لم تمنح الأولوية لتوثيق هذه المرحلة، خاصةً فيما يتعلق بالفنون الشعبية وتجلياتها.
بيد أن القليلين الذين كتبوا مقالات استذكارية حول الصندوق أجمعوا على أن الروايات التي كان يتم تناقلها كانت متعلقة بقصص شعبية عربية مثل أبو زيد الهلالـي، وعنتر العبسي والزير سالم، وأن بعض الصور التي كانوا يرونها هي تجسيد لصور الشخصيات العربية بأحصنة وسيوف وغيرها. لذا، فالعامل الزمني كان سبباً في تكييف الصندوق مع القصة العربية لا الغربية.
وعلى الرغم من فردانية النظر من العدسات المحدبة، إلا أن الصندوق قام بدور السينما في التفاعل الاجتماعي بدلاً من العزلة البصرية التي تسببها الشاشة الصغيرة، خصوصاً للطفل. كما أن ندرة الأوقات التي يمكن من خلالها المشاهدة تُعَّد من الأمور المُبهرة حقاً في تجربة التفرج عبر الصندوق، بالإضافة إلى اجتماع عناصر أخرى تشبه العرض المسرحي كالسرد والراوي. ويجادل البعض بأن الجماهير المُدللة اليوم كانت ستنبهر بنفس الطريقة لو أُعيد إحياء الصندوق مرّة أخرى، وهو ما يفعله البعض مثل
أبو العجب و
الأخوين أبو سليم وغيرهم.
*الصورة المرفقة في هذا التقرير التقطها عبدالهادي الجزار عام 1970 لصندوق العجب في طرابلس لبنان.