تواصل معنا
مقالات

كيف يصنع المنفى مثقفًا؟ حوار مع تيسير أبو عودة

أفنان أبو يحيى   |   2021/03/07

"إنني أحدق من نافذة المنفى على وطني المسلوب أو فردوسي المفقود معيدًا تخيّله ومشتبكًا مع فعل الكتابة الذي يُعتبر بحدّ ذاته شكلًا من أشكال المنفى، إنّ الشخص المطمئِن للعالَم برأيي لا يستطيع أن يكتب، وذلك لا يعني أن المنفى مرض، بل هو استشعار نقدي وترجمة للخلل التاريخي والحقيقة الوجودية، ومن ثم محاولة تقديم الأسئلة والإجابات".

لعل هذه العبارة مناسبة لفتح حوار شائق رغم أنها جاءت كخاتمة لهذا الحوار على لسان الدكتور تيسير أبو عودة، باحث متخصص في الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار وصاحب كتاب "عزاءات المنفى" .

في أحد صباحات عمان الباردة قصدنا مقهىً ما زال يفتح أبوابه للزوار رغم الجائحة، لنحاول في وقفة مع الذات والآخر أن نبحث سؤال المنفى الذي بدأ منذ سقوط آدم وحواء من الجنة وكان حتى القرن العشرين عقوبة بديلة عن الإعدام، وأن نستكشف علاقته بصناعة المثقف وعلاقة الأخير بالسلطة. بعد أن طلبنا القهوة وجلسنا على طاولة غير مريحة لكننا تجاوزنا شعورنا برداءتها بالانغماس في الحوار وتبادل بعض النكات الساخرة من النظم الاجتماعية والسياسية بدأتُ الحوار بشكل تقليدي ومثلما يبدأ أي حوار آخر يتناول هذا الموضوع متسائلة: كيف يمكننا أن نعرّف المنفى؟

هناك الكثير من المعاني والسياقات المتعددة التي يمكن أن نُموضع فيها مفهوم المنفى، بالمعنى السيكولوجي هو أقرب للاغتراب، لكن اغتراب من؟ اغتراب الذات عن الواقع أم اغتراب الذات عن العالم. في كتاب تأملات في المنفى لإدوارد سعيد، تحدث سعيد عن المنفى من منظوره ومنظور مجموعة من المثقفين الغربيين، وقدم الكثير من الإحالات الذاتية والسردية التي واجهها نفسه بين عالمين، عالم ولد فيه في القدس، ثم ارتحل لكلية فكتوريا في مصر، ثم انتقل للولايات المتحدة الأمريكية ليجد نفسه في مواجهة وجودية مع المنفى. المنفى ينطلق من الوعي الإنساني بوجود فجوة أو هوة وجودية ومعرفية ولغوية واجتماعية وثقافية بين الشخص وما يحيط به. المنفى متدرج كما يسميه محمود درويش بالمعنى اللغوي والوجودي والفلسفي والسيكولوجي، ومعناه المباشر أن تكون خارج المكان جغرافيًا، لكن المنفى بالنسبة لي فكرة تتجاوز الجغرافيا، ثمة مثقفون منفيون في عقر دارهم فهم خارج المكان من الجانب التخيلي أو المعرفي لأنهم يعوا عدم انتمائهم للقطيع أو إذعان الجماهير.

- في تأثير المنفى على الأفراد، قد لا نختلف أن المنفى -جغرافيًا أو مجازيًا- هو ظاهرة معقدة وباردة وكئيبة، لكن كيف لهذا الوضع السيء أن يخلق الفرصة لصقل المثقف وتكوين شخصيته؟

ما يمكننا أن نتحدث عنه في هذا السياق هو تحويل عذابات المنفى لعزاءات وأشكال مقاومة جمالية وثقافية، ما يسميه سعيد الخروج من حالة البنوّة إلى التبني، البنوّة أي أن نولد بين أهلنا وبني جلدتنا ويفرض علينا الواقع بما فيه البيولوجي والجغرافي الثقافي، لكن عندما ينضج ويتشكل الوعي الإنساني، تبدأ فكرة التبني والصداقة حيث نلتقي مع الأفراد في قضايا إنسانية عادلة وفي تبني فكرة المعذّبين في الأرض حسب وصف فرانز فانون لنتشارك معهم الهمّ الإنساني بقيم العدالة والمساواة والخيرية بمفهومها الأخلاقي ومجابهة الإمبريالية والاستعمار وكل أشكال الظلم الاجتماعي والسياسي. وهذه الحالة هي شكل من أشكال السرديات التي تعزز فكرة ما أسميه المنفى الأخلاقي حيث يدرك ويعي المثقف مفهوم المنفى بكل سياقاته ويقف في مجابهة أخلاقية مع الأشكال الدوغمائية من المؤسسات، مؤسسة الدين إن كانت في زواج كاثوليكي مع مؤسسة السياسة، مؤسسة السياسة في محاولاتها الدؤوبة لقهر الجماهير، مؤسسة التعليم في محاولة إعادة إنتاج الوضع الراهن وإعادة تقديمه للجماهير بوصفه الوضع المطلق النهائي. بالضرورة أن لا يقف المثقف المنفي فقط في مجابهة مع العالم اللاأخلاقي، ولذلك فهو دائما في ورطة زمكانية ولا يتفق مع السياق العام ولا يسير مع التيار الرسمي في مهمة دؤوبة ومحفوفة بالمخاطر يُشبِّهها تشومسكي بمهمة الانبياء للدفاع عن الحقيقة، لا أقصد الحقائق المطلقة بل الحقائق غير النسبية التي لا يختلف عليها اثنان مثل حق المظلوم بانتزاع حقه كحق الشعب الفلسطيني في أرضه.

- هل نستطيع أن نقول أن المنفى أو الشتات الفلسطيني أكثر صعوبة عن غيره؟ الفلسطيني مثلًا لا يملك حرية العودة للوطن، وتراوده هواجس مكان ربما لم يولد فيه، عليه أيضًا أن يتخلى عن الجوهرانية المتعلقة بالقوالب القومية والجغرافية لكنه في نفس الوقت يجب أن يتمسك بالقيم الإنسانية وبالدفاع عن قضيته.

لا شك أن هناك بعض الخصوصية لهذا المنفى خصوصًا وأنه أبدي وأن فلسطين ما زالت البقعة الوحيدة الواقعة تحت الاستعمار حتى اللحظة لكنني ضد التعامل مع المنفى الفلسطيني من زاوية شوفينية محدودة لأن الفلسطيني يتعاطف مع القضايا العادلة الأخرى ويدرك أنّه جزء من هذا العالم ولا أحد يستطيع أن يصادر من الفلسطيني او غيره الدفاع عن أخلاقية قضيته ومشروعيتها في مواجهة الاحتلال الصهيوني. يقول مريد البرغوثي واصفًا المنفى بأنه كسر للارادة، واتفق معه بأن هذه هي الكارثة الكبرى في المنفى خصوصًا مع وجود المسؤوليات الأخلاقية، الجانب الديالكتيكي من فكرة المنفى كان واضحًا عند تيودور أدورنو الذي يقول أنه من الضرورة الأخلاقية أن تكون منفيًا، وذلك ليس من الجانب الجغرافي بل من خلال الدافع الأخلاقي ورفض الفكر الدوغمائي المتشدد والاستسلام لفكر السلطة.

- هل المثقف المنفي هو شخص يقول لا لكل شيء ويعترض على كل فكرة في محاولة لمقاومة السلطة ومؤسساتها ؟

لا طبعا، ولكنه يقول لا لكل أشكال القهر الاجتماعي والسياسي، إذ قدّم جوليان بيندا في أطروحته خيانة المثقف تعريف المثقف على أنّه الشخص الذي يُشهر الحق في وجه السلطان ولو كان على مقصلة الإعدام. وهذا المفهوم تم تقديمه في الإسلام وفي قول عمر بن الخطاب "من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه"، ولكن التسييس الديني لمفهوم الاختلاف التأويلي في تاريخ الإسلام كان مرعبا، كما حدث مع الحلاج وابن عربي وابن رشد وغيرهم. المشكلة الكبرى عند المثقف المنفي هي فهم السلطة وعلاقته بها ومناصرة القيم الانسانية. نعم المثقف المنفي دائمًا مشتبك مع الرفض، ليس الرفض من أجل الرفض، لكنّه يرفض الظلم وقادر على استخدام أدوات المعرفة لخدمة قيم العدالة والمساواة والدفاع عن المعذبين في الأرض إن كان من اولئك المؤمنين بفكرة الحقيقة الأخلاقية التي يهزأ بها بعض سحرة عالم ما بعد الحداثة الذين يعتبرون الحقيقة هلامية وليست واحدة وهذا ما حدث مع ميشيل فوكو وسارتر عندما كانا في مواجهة مع إدوارد سعيد، حيث لم ينطقوا بكلمة واحدة عندما تعلّق الحوار "بإسرائيل" في "رسالة واضحة عن الأيديولوجية التي يستنبطنها هؤلاء المثقفين"، حتى فولتير عراب الثورة الفرنسية سقط في فخ الاستشراق وكتب مسرحية محمد حيث يستخدم أطروحات مستهلكة ومختزلة. 

- هناك أنظمة سياسية قمعية وبالمثل، مجموعة من المثقفين يعارضونها، لكن غالبًا ما يتم قمعهم واسكاتهم وربما خسارتهم بشكل مأساوي، ألا تعتقد أن المثقف في مرحلة ما يمكنه أن يمارس المراوغة السياسية؟ 

هذا سؤال منطقي وواقعي جدًا. في هذه الحالة، يجب أن ننتبه لمستوى الخطورة المعتمدِة على السياق الذي يتحدث به المثقف والمنصة التي يتحدث من خلالها، إذا كانت البيئة تمثل نظام ديموقراطي نسبي يحميه ويحمي ما يقول وليس هناك تبعات سياسية وقانونية خطيرة رغم أن  القانون يتم تشويهه وشرعنته بما يخدم السلطة وما يحمي مصالحها المطلقة بوصفه جزء من النظام الديمقراطي كما قال تشومسكي، ربما يكون هناك سقف مرتفع من الحريات، لكننا في الدول الشمولية أو الوطن العربي، نجد قمع يمارس ضد الأشخاص المثقفين وسجون سياسية واضطهاد ينبغي محاولة تجنبه. 

- رغم أنك لم تولد في فلسطين ولم تراها، إلا أنّك خاطبتها في كتابك "عزاءات المنفى"، أخبرنا كيف قمت بذلك في ظل ما يقال بأن "المثقف منفي وطنه الكتابة"؟ وهل يعني ذلك أننا على موعد مع أعمال قادمة؟  

لقد كان "عزاءات" المنفى محاولة سردية تخييلية لاستعادة وطن مفقود، حيث ولد أبواي في بئر السبع في فلسطين ثم هُجّروا منها في النكبة. ولدتُ في الأردن واستيقظت على حقيقة قد تبدو غير مقبولة ومفهومة بالمعنى الوجودي، لأنني ممزق بين عالمين أحبّهما وأنتمي لهما، أحدهما جنسيتي والآخر جذوري. حاولت أيضًا في الكتاب محاورة مفهوم المنفى في علاقته مع الذات، الذات الكاتبة والذات المنفية والذات التي تعيد انتاج نفسها وتخيل موقعها من هذا العالم ومن فكرة المكان. لذلك هو بالمعنى الفلسفي محاولة سردية لاستعادة ما ضاع مني ولو في الجانب التخييلي، مقدمًا مجموعة من النصوص التي لا تستند لهيكلية أدبية تقليدية. ما زلت اشتبك مع هذا المنفى الذي لا يقدم قفلة نهائية لكنني مصر على محاورته ولم يختمر في اللاوعي لدي الإجابة عنه، ولو اختمرت لما كنت كتبت هذا الكتاب، وما تطلعت لنشر كتابي الثاني العام القادم.

بقلم أفنان أبو يحيى